16 فبراير 2016

عرض كتاب.. مملكة الدَّيْجور




مملكة الدَّيْجور.. مجموعة قصصية تتكون من تسع قصص قصيرة للكاتبة رحاب الخضري، تنتمي جميعها إلى الواقعية الكلاسيكية، فالقارئ سيجد قدميه قد انغمستا في تفاصيل واقعية دون أي رتوش بمجرد أن يتصفح الكتاب..، إلا أن الكاتبة وضعت رتوشها الأدبية الخاصة، وإضفاء أسلوبها المتميز بتمكنها من اللغة العربية ومفرداتها، ودقة اختيارها للكلمات المناسبة للتعبير بها عما تريده تمامًا، وامتلاكها القدرة على استخدام التشبيهات وتصوير المشاهد وتجسيدها للقارئ بما يرسخ في مخيلته لوحات مرئية، مثال على ذلك قولها: "أرضٌ بكر مشبَّعة بالخصوبة أرضها، وفأسٌ أعوج صدئ النَّصل فأسه" في قصة (ليتها دامت رائحة القهوة).. "وكأنه ابن شرعي للحائط، أنبتته بجوارها" في قصة (الحائط).. "لتتركها بحيرة أنهكها الجفاف، جذع شجرة خاوٍ يابس.. ملقى على الطَّريق، راهبة تتخبّط في صخب الحياة" في قصة (فينوس الرَّاهبة).. "كانت ليلة عمر ملتحفة بالأسود القاتم".. "أن تنحر سعي النَّهار قربانًا لحياة الليل" في قصة (مملكة الدَّيْجور).. "مع نسمات الفجر الملطخة بالأبخرة السَّامة" في قصة (المصنع).. مشاهد غرق الحجرة في قصة (حجرة سكنها الوجع).

الكاتبة تجعل البطل دائمًا في مواجهة قاسية مع القدر، أحيانًا يتمّرد على هذا الواقع ويحاول تحديه وتغييره، ونرى ذلك في قصص (فينوس الرَّاهبة، مملكة الدَّيْجور، وابتسامة نور)، وفي أحيانٍ أخرى نجد البطل مستسلمًا لقدره، راضيًا -أو هو مجبر على القبول والرّضا- بحاله، وذلك كما نرى في قصتي (ليتها دامت رائحة القهوة، والحائط).. برغم هذا الواقع المأساوي، نلاحظ أن الكاتبة لا تجعله سوداويًا بالكامل كما يبدو من الظاهر، فالحقيقة أن الكاتبة تزرع الأمل بين سطور حكايات أبطالها كما سنرى في عرض كل قصة على حدة.

تتصدّر قصة (ليتها دامت رائحة القهوة).. تنسج هنا الكاتبة على منوال تيمة المقولة الشهيرة.. "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع".. ونجد أن البطلة "فاطمة" مستكينة للواقع، راضية به لا تحاول ولا تفكر حتى في التمرد عليه، مبررة ذلك لنفسها كي تقنع نفسها بأن "الفرح له ناسه، وإحنا اللي الهم اختارنا".. طريقتها في مواجهة القدر كـ "متهم برئ ينتظر نطق القاضي بحكم الإعدام الباطل الذي لا يستحقه" ويمكننا هنا إضافة.. ولا يملك حق الدفاع عن نفسه ولا القدرة على ذلك.

في قصة (الحائط).. نجد البطل يعيش وفق روتين يومي لا يغيره، مقتنعًا باستحالة تغيير واقعه، فالنهاية لن تكون في صالحه أبدًا.. والحائط في القصة ليس مجرد مكانًا يستند عليه البطل ويعتبره حضنًا ككل -أو معظم- البسطاء، ولكن يمكننا القول أن الحائط المقصود هو ذاك الجدار السّد في طريق شاب بسيط طموح، لا يملك من القوة ما يواجه به قسوة الواقع.

في قصة (فينوس الرَّاهبة).. نجد البطلة في حالة تحدي لواقعها، لمرضها الذي سلبها أنوثتها في البداية، ثم لخذلان حبيبها الذي تخلى عنها.. أعجبتني هذه القصة كثيرًا ولم يفسد هذا الإعجاب سوى العريس الذي تقدّم للبطلة وهو يعرف عنها كلّ شيء.

الواقع مأساوي مرةً أخرى في قصة (حجرة سكنها الوجع)، ولكن في النهاية برغم كلّ شيء تزرع الكاتبة بعضًا من الأمل بعد إصلاح دار البطل وعلاجه وتعويضه ماديًا وبراءة زوجته من ظنونه.
جاء تصوير مشاهد غرق الحجرة بارعًا، وببراعة أكثر جعلت الكاتبة السيول تُغرق الحجرة في الوقت الذي غرق فيه البطل في ظنونه وأغرق زوجته بها حتى ابتلعتها تمامًا مثلما فعلت بها السيول.

مملكة الدَّيْجور.. مملكة الصِّدق.. أجمل قصص المجموعة على الإطلاق.. ولقد حجزتها مسبقًا من الكاتبة لعمل سيناريو فيلم لها، ولقد وافقت، وها أنا "أدبسها" مرةً أخرى :D
البطل في هذه القصة يعاني من متلازمة نيكتوفيليا Nyctophilia : حب الظَّلام.. حدث هذا بعد أن استطاع تحويل مخاوفه إلى عشق، حيث تؤكد الكاتبة على فكرة.. نحن من يخلق مخاوفنا الشخصية بغلق أعيننا عنها وتسليم النفس لخيالات مزعجة.. بمجرد مواجهة البطل لمخاوفه تكيف مع وضعه الجديد وتعود عليه، بل وأحبه وأصبح عالمه.
قصة رائعة بالتَّأكيد.

عنوان ذكي آخر -إضافة لكلّ عناوين المجموعة- تضعه الكاتبة على صدر إحدى قصصها وهي قصة (كوب من الخيبة)
وهي قصة طريفة، أعترف بأن نهايتها خدعتني.. أفسد القصة كثرة الجمل الحوارية، رغم روح المرح وخفة الظِّل الذي أظهرته الكاتبة وبرعت فيه.
في قصة (المصنع).. تطل قسوة القدر برأسها مرة أخرى، فالبطل مجبر على التّخلي عن طفولته، وعلى قبول العمل الشَّاق الذي يصل لحد السُّخرة، إلا أن بارقة الأمل تطل برأسها هي الأخرى من خلال أحلام البطل "عالمه البديل".. فالقدرة على الحلم أراها أول طريق التّمرد..، كما نتلمسها أيضًا في رفض البطل للإهانة.

خلافًا لطريقة السّرد التي اختارتها الكاتبة في كلّ قصص المجموعة، وهي طريقة الرّاوي العالم بالأمور، نجد في قصة (أصابع الموت) أن البطل هو الرَّاوي، كما تخالف الكاتبة باقي قصص المجموعة في كتابة الحوار في هذه القصة باللغة العربية الفصحى.. "القطار انتبهي القطار" "حرامٌ عليكِ شبابك".. وهو ما رايته غير متسق مع المجموعة.
تؤكد الكاتبة في هذه القصة نفس فكرة مواجهة المخاوف، حيث تجد البطلة نفسها مضطرة لمواجهة مخاوفها، وعندها تنجو منها، في نهاية كانت بمثابة مفاجأة لي.

في قصة (ابتسامة نور).. نجد البطلة في حالة تحدي مستمرة لقسوة قدرها، ولم تسمح له أن يهزمها على طريقته، وبالرّغم من أنها تعرف النِّهاية الحتمية لها، إلا أنها شاءت أن تكون بطلة حكايتها، وأن تعرف موعد نزول السِّتار، ورفضت أن تلعب دورًا ثانويًا.
هذه القصة للأسف اعتبرها أضعف قصص المجموعة من حيث البناء حتى وإن كانت الفكرة جيدة جدًا.
فحتى إن لم أتعجب من طلب البطل لسيجارة وهي في مستشفى!.. إلا أنني تعجبت جدًا من حصولها عليها، بل وتدخينها أيضًا في حجرة إحدى المريضات!..
كما أن كثرة الجمل الحوارية أفسدت القصة كالعادة، فالقصة القصيرة هي فن السّرد البعيد عن الحوار قدر الإمكان، وإن اضطر الكاتب لاستعمال الحوار فيكون ذلك في أضيق الحدود.

في النِّهاية.. استمتعت بقراءة المجموعة حقًا، فأنا امام كاتبة موهوبة عندها الكثير الذي لم يخرج بعد، وأتمنى ان تنطلق بخيالها دون تقييد شعرت به، كما أتمنى أن تستغل طاقتها السّاخرة الكبيرة التي أعرفها عنها من متابعتي لمدونتها في عرض الواقع، فإن فعلت فلا أشك انها ستكون واحدة من ألمع الأدباء في هذا المجال.
مع التّمنيات بالنّجاح والتّوفيق الدّائمين.

ليست هناك تعليقات:

Translate